09 - 05 - 2025

وجهة نظري | معافرة

وجهة نظري | معافرة

في قمة الإحساس بالحزن تأتى دوما نقطة ضوء تنير نفوسنا المعتمة من ألم الفقد .. كلمة حنون .. نظرة حاضنة .. طبطبة يد رقيقة .. إبتسامة مهونة مشجعة على تخطى الألم وتجاوز المحنة وتناسى الوجع ولو للحظات.

تتداعى المشاهد التي تجسد تلك الحالة من المعافرة التي تتطلب من صاحبها بث الأمل في نفوس ملتاعة ضعيفة .. ربما لايكون أفضل حالا منهم ويعانى نفس القدر من الألم أو يزيد لكنه فجأة يجد نفسه مسخرا لتطييب خاطرهم وتضميد جراحهم وتخفيف الألم عن قلوبهم الحزينة.

تابعتها بإعجاب تلك الفتاة العشرينية فائقة الجمال، كانت تقبض بقوة على ذراعي الكرسى المتحرك الذى تجلس عليه أمها بجسدها النحيل الواهن ووجهها الذى بدت فيها علامات المرض واضحة .. دفعت بقوة محسوبة المقعد وأسرعت تقفز معه قفزات مرحة ضاحكة سرت عدواها في نفوس كل من تابعها، ونالت أمها من مرحها جانبا فاستسلمت ليد ابنتها، بينما انطلقت ضحكات انتزعتها من براثن الوهن، لتنعم رغم الألم بفرحة من القلب كم كانت فى حاجة إليها حتى لو كانت خاطفة مؤقتة.

لا تختلف تلك الصورة عن أخرى بطلتها أم احتضنت ابنها الذى تجاوز عمره العاشرة، لم تعبأ بثقل جسده.. استجمعت كل قواها لتصعد به الأتوبيس ، تجاهلت كل نظرات الشفقة التي اخترقت قدمى الطفل المصابة بالضمور .. جلست في صمت لتلتقط بعضا من أنفاسها التي تعمدت ألا تُظهر لهاثها، وسرعان ما فتحت حوارا جذابا مع ابنها تعالت معه الضحكات ليشاركها المحيطون بها، تلك الحالة من المرح نجحت في بثها لتستبدل نظرات الشفقة بنظرات الإعجاب والثناء على أم معافرة تمتلك قلبا من حرير وإرادة من حديد.

قليل من يقابل الموت بابتسامة، لكنها كانت منهم ..عرفت أنه قادم لامحالة فكتمت حزنها في أعماق القلب ورسمت قدره إبتسامة احتضنت به صغيرتها حتى استرد الله وديعته .. رحبت بحفل عيد ميلادها التي تعرف أنه الأخير، اشترت فستانا من الحرير الأبيض لتراها عروسا، تعرف أن القدر لن يمهلها تلك اللحظة لكنها أرادت أن تستبقه بصورة ولو متخيلة تظل محفورة في قلبها تستعيدها كلما اشتاقت لها .. وإن كانت على يقين أن لاشيء يخفف حنين الاشتياق.

أن ترسم ابتسامة على وجه يفيض بالألم هو الهدف الوحيد الذى يدفع تلك القلوب لفعل المستحيل حتى يتحقق ذلك الهدف.

تحاملت على نفسها رغم الإرهاق التي تعانيه بفعل قلة النوم من تعب الجسد .. لم تكترث بحرارة الجو الخانقة ولم تعبأ بالساعات التي قضتها لشراء مستلزمات البيت، كان شغلها الشاغل البحث عن فانوس رمضان ذي ألوان وأضواء مبهجة .. كانت تعلم مدى عشقه لطقوس الشهر الكريم .. جابت كثيرا من المحلات تبحث عن فانوسه الأثير .. حملته بفرح ووضعته أمام سريره تابعها بنصف تركيز وبنظرات شاردة، سرعان ما تجاهلتها بعدما لمحت علامات الرضا والامتنان والفرحة مرسومة على ملامح وجهه، وإن بدت واهنة بفعل ثقل المرض العضال، لكنها أجادت قراءتها كما كانت تجيد دوما قراءة كل رسائل ذلك الوجه الأثير.

تحامل على نفسه كثيرا ليخفى تلك الحالة من الحزن التي داهمته فور سماع نبأ فسخ خطبة ابنته، تلاحقت كلماتها التي رددتها على مسامعه بوجع، لم يستطع تهدئتها .. صرخت بكل قوتها: ثلاث قصص فاشلة تنتهى نفس النهاية، ما أسوأ حظى.

تاهت الكلمات وسط نوبة بكاء هستيرية .. تحامل على نفسه كثيرا قبل أن يسرع لأقرب محل زهور ليشترى منه باقة يعرف مدى عشق إبنته لها .. ويهرع لآخر حاملا علبة فخمة من الشيكولاته .. أهداهما بوقار أب حنون لابنته مرفقا بهما كلمة واحدة "ولايهمك".. تلفتهما الإبنة بإمتنان هون كثيرا من وجع قلبها الحزين.

"حبتها واللا محبتهاش هي الدنيا ولازم تتعاش" .. تقفز كلمات تلك الأغنية كلما تداعت تلك المشاهد التي تجسد محاولاتنا للتغلب على الأحزان مهما بدت ثقيلة.

رددتها عندما توقفت أخيرأ عند البالونات التي علقت على حبال المخيمات بعدما صارت بديلا للمدارس التي هدمت جراء الزلزال. بينما يجلس في الداخل الأطفال المغاربة مرددين الأغاني المبهجة يقودهم إليها مدرسون يكابدون لبث لحظات من الفرحة في نفوس الصغار علهم يمحون بها بعضا من آثار الرعب والفزع التي عاشوها بعدما زلزلت الأرض من تحت أقدامهم لتبتلع أهلهم وأحبابهم وأصحابهم.

رغم كل شيء مازالت القلوب تحمل قدرا من أمل، ومازالت النفوس تعافر لتشعر أنها على قيد الحياة.
---------------------------
بقلم: هالة فؤاد

مقالات اخرى للكاتب

قانون الإيجار القديم .. لغم لا يحمد عقباه